فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (6- 8):

قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر تعالى بإخراج الأثقال التي منها الأموات، اشتد التشوف إلى هيئة ذلك الإخراج وما يتأثر عنه، فقال مكررًا ذكر اليوم زيادة في التهويل: {يومئذ} أي إذ كان ما تقدم وهو حين يقوم الناس من القبور {يصدر} أي يرجع رجوعًا هو في غاية السرعة والاهتداء إلى الموضع الذي ينادون منه لا يغلط أحد منهم فيه ولا يضل عنه {الناس} من قبورهم إلى ربهم الذي كان لهم بالمرصاد ليفصل بينهم {أشتاتًا} أي متفرقين بحسب مراتبهم في الذوات والأحوال من مؤمن وكافر، وآمن وخائف، ومطيع وعاص.
ولما ذكر ذلك، أتبعه علته فقال بانيًا للمفعول على طريقة كلام القادرين: {ليروا} أي يرى الله المحسن منهم والمسيء بواسطة من يشاء من جنوده أو بغير واسطة حين يكلم سبحانه وتعالى كل أحد من غير ترجمان ولا واسطة كما أخبر بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم {أعمالهم} فيعلموا جزاءها أو صادرين عن الموقف كل إلى داره ليرى جزاء عمله، ثم سبب عن ذلك قوله مفصلًا الجملة التي قبله: {فمن يعمل} من محسن أو مسيء مسلم أو كافر {مثقال} أي مقدار وزن {ذرة خيرًا} أي من جهة الخير {يره} أي حاضرًا لا يغيب عنه شيء منه لأن المحاسب له الإحاطة علمًا وقدرة، فالكافر يوقف على أنه جوزي به في الدنيا أو أنه أحبط لبنائه على غير أساس الإيمان، فهو صورة بلا معنى ليشتد ندمه ويقوى حزنه وأسفه، والمؤمن يراه ليشتد سروره به.
ولما ذكر الخير، أتبعه ضده فقال: {ومن يعمل} أي كائنًا من كان {مثقال ذرة شرًا} أي من جهة الشر {يره} فما فوقه، فالمؤمن يراه ويعلم أنه قد غفر له ليشتد فرحه، والكافر يراه فيشتد حزنه وترحه، والذرة النملة الصغيرة أو الهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة، وقد رجع آخرها على أولها بتحديث الأخبار وإظهار الأسرار، وقد ورد في حديث الأعرابي أن هذه السورة جامعة لهذه الآية الأخيرة، وقال ابن مسعود- رضي الله عنه ـ: إنها أحكم آية في القرآن، وكان رسول الله عليه صلى الله عليه وسلم يسميها الفاذة الجامعة، ومن فقه ذلك لم يحقر ذنبًا وإن دق لأنه يجتمع إلى أمثاله فيصير كبيرًا كما قال صلى الله عليه وسلم لعائشة- رضى الله عنها ـ: «إياك ومحقرأت الذنوب، فإن لها من الله طالبًا» وروي كما ذكرته في كتابي (مصاعد النظر في الإشراف على مقاصد السور) في حديث: «إنها تعدل نصف القرآن» وفي حديث آخر أنها تعدل ربع القرآن، ولا تعارض، فالأول نظر إليها من جهة أن الأحكام تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة، وهذه السورة اشتملت على أحكام الآخرة إجمالًا، وزادت على القارعة بإخراج الأثقال وأن كل أحد يرى كل ما عمل، والثاني نظر إليه باعتبار ما تضمنه الحديث الذي رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر» فاقتضى هذا الحديث أن الإيمان بالبعث الذي قررته هذه السورة ربع الإيمان الكامل الذي دل عليه القرآن، وأيضًا فأمر الدين أربعة أجزاء: أمر المعبود، وأمر العبيد، وأمر العبادة، وأمر الجزاء، فهذه السورة تكفلت بأمر الجزاء، وسورة الكافرون ربع لأنها في أمر العبادة على وجه الخصوص والخفاء وإن كانت على وجه التمام والوفاء،
وسورة النصر ربع لأنها لأمر العبادة على وجه العموم والجلاء والظهور والعلاء- والله الهادي للصواب وإليه المآب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتًا لّيُرَوْاْ أعمالهم}
الصدور ضد الورد فالوارد الجائي والصادر والمنصرف وأشتاتًا متفرقين، فيحتمل أن يردوا الأرض، ثم يصدرون عنها الأرض إلى عرصة القيامة، ويحتمل أن يردوا عرصة القيامة للمحاسبة ثم يصدرون عنها إلى موضع الثواب والعقاب، فإن قوله: {أَشْتَاتًا} أقرب إلى الوجه الأول ولفظة الصدر أقرب إلى الوجه الثاني، وقوله: {لّيُرَوْاْ أعمالهم} أقرب إلى الوجه الأول لأن رؤية أعمالهم مكتوبة في الصحائف أقرب إلى الحقيقة من رؤية جزاء الأعمال، وإن صح أيضًا أن يحمل على رؤية جزاء الأعمال، وقوله: {أَشْتَاتًا} فيه وجوه:
أحدها: أن بعضهم يذهب إلى الموقف راكبًا مع الثياب الحسنة وبياض الوجه والمنادي ينادي بين يديه: هذا ولي الله، وآخرون يذهب بهم سود الوجوه حفاة عراة مع السلاسل والأغلال والمنادي ينادي بين يديه هذا عدو الله.
وثانيها: {أشتاتًا} أي كل فريق مع شكله اليهودي مع اليهودي والنصراني مع النصراني.
وثالثها: أشتاتًا من أقطار الأرض من كل ناحية، ثم إنه سبحانه ذكر المقصود وقال: {لّيُرَوْاْ أعمالهم} قال بعضهم: ليروا صحائف أعمالهم، لأن الكتابة يوضع بين يدي الرجل فيقول: هذا طلاقك وبيعك هل تراه والمرئي وهو الكتاب وقال آخرون: ليروا جزاء أعمالهم، وهو الجنة أو النار، وإنما أوقع اسم العمل على الجزاء لأنه الجزاء وفاق، فكأنه نفس العمل بل المجاز في ذلك أدخل من الحقيقة، وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: {لّيُرَوْاْ} بالفتح.
ثم قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
{مِثْقال ذَرَّةٍ} أي زنة ذرة قال الكلبي: الذرة أصغر النمل، وقال ابن عباس: إذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها فكل واحد مما لزق به من التراب مثقال ذرة فليس من عبد عمل خيرًا أو شرًا قليلًا أو كثيرًا إلا أراه الله تعالى إياه.
المسألة الثانية:
في رواية عن عاصم: {يَرَهُ} برفع الياء وقرأ الباقون: {يَرَهُ} بفتحها وقرأ بعضهم: {يَرَهُ} بالجزم.
المسألة الثالثة:
في الآية إشكال وهو أن حسنات الكافر محبطة بكفره وسيئات المؤمن مغفورة، إما ابتداء وإما بسبب اجتناب الكبائر، فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرة من الخير والشر؟.
واعلم أن المفسرين أجابوا عنه من وجوه:
أحدها: قال أحمد بن كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا حتى يلقى الآخرة، وليس له فيها شيء، وهذا مروي عن ابن عباس أيضًا، ويدل على صحة هذا التأويل ما روي أنه عليه السلام قال لأبي بكر: «يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل الخير حتى توفاها يوم القيامة».
وثانيها: قال ابن عباس: ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيرًا أو شرًا إلا أراه الله إياه، فأما المؤمن فيغفر الله سيئاته ويثيبه بحسناته، وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته.
وثالثها: أن حسنات الكافر وإن كانت محبطة بكفره ولكن الموازنة معتبرة فتقدر تلك الحسنات انحبطت من عقاب كفره، وكذا القول في الجانب الآخر فلا يكون ذلك قادحًا في عموم الآية ورابعها: أن تخصص عموم قوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} ونقول: المراد فمن يعمل من السعداء مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل من الأشقياء مثقال ذرة شرًا يره.
المسألة الرابعة:
لقائل أن يقول: إذا كان الأمر إلى هذا الحد فأين الكرم؟ والجواب: هذا هو الكرم، لأن المعصية وإن قلت ففيها استخفاف، والكريم لا يحتمله وفي الطاعة تعظيم، وإن قل فالكريم لا يضيعه، وكأن الله سبحانه يقول لا تحسب مثقال الذرة من الخير صغيرًا، فإنك مع لؤمك وضعفك لم تضيع مني الذرة، بل اعتبرتها ونظرت فيها، واستدللت بها على ذاتي وصفاتي واتخذتها مركبًا به وصلت إلى، فإذا لم تضيع ذرتي أفأضيع ذرتك! ثم التحقيق أن المقصود هو النية والقصد، فإذا كان العمل قليلًا لكن النية خالصة فقد حصل المطلوب، وإن كان العمل كثيرًا والنية دائرة فالمقصود فائت، ومن ذلك ما روى عن كعب: لا تحقروا شيئًا من المعروف، فإن رجلًا دخل الجنة بإعارة إبرة في سبيل الله، وإن امرأة أعانت بحبة في بناء بيت المقدس فدخلت الجنة.
وعن عائشة: «كانت بين يديها عنب فقدمته إلى نسوة بحضرتها، فجاء سائل فأمرت له بحبة من ذلك العنب فضحك بعض من كان عندها، فقالت: إن فيما ترون مثاقيل الذرة وتلت هذه الآية» ولعلها كان غرضها التعليم، وإلا فهي كانت في غاية السخاوة.
روي: «أن ابن الزبير بعث إليها بمائة ألف وثمانين ألف درهم في غرارتين، فدعت بطبق وجعلت تقسمه بين الناس، فلما أمست قالت: يا جارية فطوري هلمي فجاءت بخبز وزيت، فقيل لها: أما أمسكت لنا درهمًا نشتري به لحمًا نفطر عليه، فقالت: لو ذكرتيني لفعلت ذلك» وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة، ويقول ما هذا بشيء، وإنما نؤجر على ما نعطي! وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير، ويقول: لا شيء على من هذا إنما الوعيد بالنار على الكبائر، فنزلت هذه الآية ترغيبًا في القليل من الخير فإنه يوشك أن يكثر، وتحذيرًا من اليسير من الذنب فإنه يوشك أن يكبر، ولهذا قال عليه السلام: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة» والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}
{يومئِذٍ} منصوب بقوله: {إِذا زلزِلت}.
وقيل: بقوله: {تُحَدِّثُ أَخْبارها}؛ أي تخبر الأرضُ بما عُمِل عليها من خير أو شر يومئذٍ. ثم قيل: هو من قول الله تعالى.
وقيل: مِن قول الإنسان؛ أي يقول الإنسان مالها تحدّث أخبارها؛ متعجبًا.
وفي الترمذيّ عن أبي هريرة قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال: أَتدرُون ما أخبارُها قالوا الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أَمَة بما عَمِل على ظهرها، تقول عمل يوم كذا، كذا وكذا. قال: فَهَذِهِ أَخْبارُها».
قال: هذا حديث حسن صحيح.
قال الماورديّ، قوله: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}: فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} بأعمال العباد على ظهرها؛ قاله أبو هريرة، ورواه مرفوعًا.
وهو قول من زعم أنها زَلْزلة القيامة.
الثاني: تُحَدّث أخبارها بما أخرجت من أثقالها؛ قاله يحيى بن سلام.
وهو قول من زعم أنها زَلزلة أشراط الساعة.
قلت: وفي هذا المعنى حديث رواه ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان أجلُ العبد بأرض أَوثَبَتْه الحاجة إليها، حتى إذا بلغ أقصى أثره قبضه الله، فتقول الأرض يوم القيامة: رَبِّ هذا ما استودعتني» أخرجه ابن ماجه في سُنَنه. وقد تقدم.
الثالث: أنها تُحَدّث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لَها؟ قاله ابن مسعود.
فتخبر أن أمر الدنيا قد أنقضى، وأمر الآخرة قد أتى.
فيكون ذلك منها جوابًا لهم عند سؤالهم، ووعيدًا للكافر، وإنذارًا للمؤمن.
وفي حديثها بأخبارها ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن الله تعالى يَقْلِبها حيوانًا ناطقًا؛ فتتكلم بذلك.
الثاني: أن الله تعالى يُحْدِث فيها الكلام.
الثالث: أنه يكون منها بيان يقوم مقام الكلام.
قال الطبريّ: تُبين أخبارها بالرجَّة والزلزلة وإخراج الموتى.
{بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} أي إنها تحدّث أخبارها بوحي الله (لها)، أي إليها. والعربُ تضع لام الصفة موضع (إلى).
قال العجَّاج يصف الأرض:
وَحَى لَها القرار فاستَقرّتِ ** وشَدَّها بالرّاسيات الثبَّتِ

وهذا قول أبي عبيدة: {أَوحى لها} أي إليها، وقيل: {أوْحَى لها} أي أمرها؛ قاله مجاهد، وقال السدّي: {أَوْحَى لها} أي قال لها، وقيل: سخرها.
وقيل: المعنى يوم تكون الزلزلة، وإخراج الأرض أثقالها، تحدث الأرض أخبارها؛ ما كان عليها من الطاعات والمعاصي، وما عمل على ظهرها من خير وشر.
ورُوي ذلك عن الثوريّ وغيره.
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتًا} أي فِرقًا؛ جمع شَتَّ.
قيل: عن موقف الحساب؛ فريق يأخذ جهة اليمين إلى الجنة، وفريق آخر يأخذ جهة الشمال إلى النار؛ كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14] {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43].
وقيل: يرجعون عن الحساب بعد فراغهم من الحساب.
{أَشْتَاتًا} يعني فِرقًا فِرقًا.
{لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ} يعني ثواب أعمالهم.
وهذا كما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أحد يوم القيامة إلاّ وَيَلُومُ نفسه، فإن كان محسِنًا فيقول: لم لا ازددت إحسانًا؟ وإن كان غير ذلك يقول: لم لا نَزَعت عن المعاصي»؟ وهذا عند معاينة الثواب والعقاب.
وكان ابن عباس يقول: {أشْتاتًا} متفرقين على قدر أعمالهم أهل الإيمان على حِدة، وأهل كل دين على حدة.
وقيل: هذا الصدور، إنما هو عند النشور؛ يَصْدُرون أشتاتًا من القبور، فيصار بهم إلى موقف الحساب، ليرُوا أعمالَهم في كتبهم، أو لِيرُوا جزاء أعمالهم؛ فكأنهم وردوا القبور فدفِنوا فيها، ثم صدروا عنها. والوارد: الجائي. والصادر: المنصرف.
{أَشْتَاتًا} أي يبعثون من أقطار الأرض.
وعلى القول الأول فيه تقديم وتأخير؛ مجازه: تحدّث أخبارها، بأن ربك أوحى لها، ليروا أعمالهم.
واعترض قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتًا} متفرقين عن موقف الحساب.
وقراءة العامة: {لِيُرَوا} بضم الياء؛ أي لِيريهَم الله أعمالهم.
وقرأ الحسن والزهريّ وقتادة والأعرج ونصر بن عاصم وطلحة بفتحها؛ وروي ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} كان ابن عباس يقول: مَن يعمل من الكفار مثقال ذرّة خيرًا يَرَهُ في الدنيا، ولا يُثاب عليه في الآخرة، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر عُوقب عليه في الآخرة، مع عقاب الشرك، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يَرَهُ في الدنيا، ولا يعاقَبْ عليه في الآخرة إذا مات، ويُتجاوز عنه، وإن عمل مثقال ذرّة من خير يُقْبلْ منه، ويضاعفْ له في الآخرة.
وفي بعض الحديث: «الذرّة لا زِنة لها» وهذا مَثَلٌ ضَرَبه الله تعالى: أنه لا يُغْفِل من عمل ابن آدم صغيرةً ولا كبيرة.
وهو مِثل قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقال ذَرَّةٍ} [النساء: 40].
وقد تقدم الكلام هناك في الذرّ، وأنه لا وزن له.
وذكر بعض أهل اللغة أن الذرّ: أن يضرب الرجل بيده على الأرض، فما علق بها من التراب فهو الذَّرّ، وكذا قال ابن عباس: إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها، فكل واحد مما لزق من التراب ذَرَّة.
وقال محمد بن كعب القُرَظِيّ: فمنْ يَعْمَل مِثقال ذَرّة منْ خَيْر من كافر، يرى ثوابه في الدنيا، في نفسه وماله وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير.
ومن يعمل مثقال ذرّة من شرّ من مُوْمن، يرى عُقوبته في الدنيا، في نفسه وماله وولده وأهله، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شرّ.
دليله ما رواه العلماء الأثبات من حديث أنس: أن هذه الآية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل، فأمسك وقال: يا رسول الله، وإنا لنُرَى ما عَمِلْنا من خير وشرّ؟ قال: «ما رأيت مما تكره فهو مثاقيل ذرّ الشرّ، ويُدَّخَر لكم مثاقيلُ ذَرّ الخير، حتى تُعْطَوْه يومَ القِيامة».
قال أبو إدريس: إن مِصْداقه في كتاب الله: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
وقال مقاتل: نزلت في رجلين، وذلك أنه لما نزل {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ} [الإنسان: 8] كان أحدهم يأتيه السائل، فيستقل أن يعطِيه التمرة والكِسرة والجوزة.
وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير، كالكَذبة والغِيبة والنظْرة، ويقول: إنما أوعد الله النار على الكبائر؛ فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يُعْطُوه؛ فإنه يوشِك أن يكثُر، ويُحَذِّرهُمْ اليسيرَ من الذنب، فإنه يوشِك أن يكثُر؛ وقاله سعيد بن جبير.
والإِثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعظم من الجبال، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء.
الثانية: قراءة العامة: {يَرَهْ} بفتح الياء فيهما.
وقرأ الجَحْدَرِيّ والسُّلَمِيّ وعيسى ابن عمر وأبان عن عاصم: {يُرَهْ} بضم الياء؛ أي يُريه اللَّهُ إياه.
والأولى الاختيار؛ لقوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا} [آل عمران: 30] الآية.
وسكن الهاء في قوله: {يَرَه} في الموضعين هشام.
وكذلك رواه الكسائي عن أبي بكر وأبي حَيْوة والمغيرة.
واختلس يعقوب والزهري والجحدرِي وشيبة، وأشبع الباقون، وقيل {يَرَه} أي يرى جزاءه؛ لأن ما عمله قد مضى وعُدم فلا يرى.
وأنشدوا:
إنّ منْ يَعْتدِي ويَكْسِبُ إِثْما ** وَزْنَ مِثْقال ذرّة سَيَرَاهُ

ويُجَازَى بفعله الشرَّ شرا ** وبفعل الجميلِ أيضًا جَزَاهُ

هكذا قوله تبارك ربِّي ** في إذا زُلزلت وجَل ثَناه

الثالثة: قال ابن مسعود: هذه أحكم آية في القرآن؛ وصَدّق، وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية؛ القائلون بالعموم ومن لَمْ يقل به.
وروى كعب الأحبار أنه قال: لقد أنزل الله على محمد آيتين أحْصَتَا ما في التوراة والإنجيل والزَّبور والصُّحُف: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
قال الشيخ أبو مَدْين في قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} قال: في الحال قبل المآل.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الآية الآية الجامعة الفاذة؛ كما في الصحيح لما سئل عن الحُمُر وسكت عن البغال، والجواب فيهما واحد؛ لأن البغل والحمار لا كَرّ فيهما ولا فرّ؛ فلما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ما في الخيل من الأجر الدائم، والثواب المستمر، سأل السائل عن الحُمُر، لأنهم لم يكن عندهم يومئذٍ بَغْل، ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبيّ صلى الله عليه وسلم: (الدُّلْدُل)، التي أهداها له المقوقِس، فأفتاه في الحَمِير بعموم الآية، وإن في الحمار مثاقيل ذرّ كثيرة؛ قاله ابن العربيّ.
وفي الموطأ: أن مِسْكينًا استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عِنَب؛ فقالت لإنسان: خذ حبة فأعطه إياها.
فجعل ينظر إليها ويعجب؛ فقالت: أتعجب! كم ترى في هذه الحبَة من مثقال ذرّة.
وروي عن سعد بن أبي وَقَّاص: أنه تصدق بتمرتين، فقبض السائل يده، فقال للسائل: ويقبل الله منا مثاقيل الذرّ، وفي التمرتين مثاقيل ذرّ كثيرة.
وروى المُطَّلب بن حَنْطَب: أن أعرابيًا سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يَقرأها فقال: يا رسول الله، أمثقال ذرّة! قال: «نعم» فقال الأعرابيّ: واسَوْأَتَاه! مِرارًا: ثم قام وهو يقولها؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لقد دَخَلَ قلبَ الأَعْرابيّ الإيمانُ».
وقال الحسن: قَدِم صعصعة عَمّ الفرزدق على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما سمع {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ} الآيات؛ قال: لا أبالي ألا أسمع من القرآن غيرها، حَسْبي، فقد انتهت الموعظة؛ ذكره الثعلبي.
ولفظ الماوردِيّ: ورُوي أن صعصعة بن ناجية جدّ الفرزدق أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستقرئه، فقرأ عليه هذه الآية؛ فقال صعصعة: حسبي حسبي؛ إن عَمِلتُ مِثقال ذرَّةٍ شَرًّا رأيتُه.
ورَوى مَعمر عن زيد بن أسلم: أن رجلًا جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: عَلِّمني مما علمك الله. فدفعه إلى رجل يعلمه؛ فعلمه {إِذَا زُلْزِلَتِ} حتى إذا بلغ {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} قال: حسبي.
فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «دَعُوهُ فإنَّهُ قد فَقُه» ويحكى أن أعرابيًا أخَّر {خَيْرًا يَرَهُ} فقيل: قدمت وأخرت.
فقال:
خذ بطنَ هَرشَى أو قَفاها فإنهُ ** كِلا جانِبي هَرْشَى لهنّ طرِيق

اهـ.